الجمعة، 25 يناير 2013

عواطف السلمان -- شهادةٌ على الجُرحِ والتاريخ



عواطف السلمان -- شهادةٌ على الجُرحِ والتاريخ


جمال حسين مسلم
كلما صمتَ التاريخُ في ذكرى الانتفاضة الشعبانية المباركة 1991م,كتبَ اللهُ لها أمراً جديداً؛ لتحيي به النفوس وتعطر التاريخ ,ولو بكلمات  متدليةٍ من حبال المشانق ودماء الابرياء...الانتفاضة الشعبانية المباركة جفتْ عنها الاقلام منذ زمنٍ بعيد !!,وكلما مرتْ ذكراها , مرتْ على استحياء على الرغم من انها من انصع الثورات في التاريخ ضد الطغاة..انتفاضة قُدِرَ لها انْ تقفَ ببطولةٍ منقطعة النظير أمام الغول وأزلامه وارتقتْ بنفسها حتى تهاوتْ على يدِها قلاعَ الجبناء الواحدة تلو الاخرى ...وبعد انْ رسمت خيوط الشمس الذهبية النصر على القبابِ الشامخات ..تآمر الكونُ بأكملِه لإسقاط الثورة , فلا منقذَ من الغرب قادمُ , ولا العربان راضين  بنهضة الشبان ولا ابناء الجيران  وان حُسِبَنا عليهم ..فهبتْ مع الصباح غربانُهم وصبت الجحيمَ على رؤوس الثائرين أمام الشهود والأعيان , برضا واتفاق الجميع ..فكانت محافظات الجنوب مسرحاً  كبيراً و مروعاً ,لأعظم سيناريوهات التاريخ في الذبحِ الطائفي والاستباحة للعرضِ والشرفِ ...وسالتْ اوديةً بقدرِها من الدماءِ الزاكية ..وفاحتْ رائحةُ الخوفِ الاسطوري على مدنِ التاريخ في سومر و أور بديلاً عن رائحةِ العنبر , واصفرَ ثمارُ النخيل الشامخ , برؤوسهِ المجزوزة عنوة , وجذوعهِ المسودة , وتناثرتِ الجثثُ على أبواب المدنِ وفي الطرقات ِ. وتيبسَ الدمُ على الارصفة....وانتهتْ  أولى الثورات العربية المعاصرة ضد الطغاة , وأسدلَ الستارُ عنها..فكانتْ سنين صعبة جداً , عانى الشعبُ فيها من الويل  والهلاك والجوع ..حتى قُدِرَ لهذا الشعب أنْ يرى إذلالَ ونهايةَ الطاغية في 2003م .!! 
وكلما تقدمَ الزمنُ , خلتْ صفحات التاريخ من ذكرٍ وفي لإحداثِ الانتفاضةِ الشعبانيةِ المباركة ِ, وما يذكر في مناسبات تاريخ حدوثها , لايتجاوز كونَهُ يعبرُ عن ألمِ أصحابهِ , وخصوصاً من الّذين عاشوا تلكَ الحقبة الزمنية السوداء,  ومن المستغرب تجاوز ذكر الانتفاضة في كثير من المحافل, ولاسيما التي كانَ من الاولى لها ,ان تكون أول المرافعات القضائية , عن شهداء الانتفاضة الشعبانية المباركة , وخاصة  قاعات محاكمة أفراد وقيادات النظام الهالك, ولو تمّ ذالك ؛ لكانت من أهم الوثائق في صفحات التاريخ كوقائع رسمية....تفيد الدارس والباحث في آن واحد,  في الحاضر والمستقبل... وعلى الرغم من سعة المادة العلمية والتاريخية لأيام الانتفاضة الشعبانية المباركة ؛ إلا أنّ أقسام الدراسات العليا في كثير من الجامعات ذات العلاقة , نأتْ بنفسِها وبدارسيها عن الموضوع ,وانشغلتْ في أطروحات جلُّها معاد ومكرر من بطون التاريخ ؛ زادتِ المكتبة العراقية ترهلاً وتخمة ً , فما بال الجفاء بين أقسام الدراسات العليا في التاريخ ,وعلم الاجتماع ,والنفس ,والقانون ,والعلوم الشرعية ,وبين الصفحات المشرقة من الانتفاضة المباركة ؟؟وإلى الان تخلو الساحات العامة في أكثر من عشر محافظات, كانتْ مسرحاً دامياً لأيام الانتفاضة ,, تخلو تلك الساحات من لوحةٍ فنيةٍ أو نصبٍ تذكاري أو مسمى لشارع أو حيٍّ, يتعلق بذكرى الانتفاضة وأبطالِها و خصوصيتها ؟؟؟أم يراد للأمر أن يبقى بهذا المستوى من الطرح والكتمان ,و لعلي أجهلُ مايراد... !!!
وبعد أكثر من عقدين , طافَ طائفٌ على المشهدِ الدرامي العراقي , فأنتجتْ عدداً من المسلسلات العراقية , كانت في معظمِها رائعةٌ جدا,  ولاسيما تلك التي مثلت وثيقة تاريخية تشهدُ على العصرِ , وهنا برزتْ أهميةُ مسلسل ((ضياع في حفر الباطن )) عن رواية عبد الكريم العبيدي وسيناريو احمد السعداوي وإخراج الرائع  مهدي طالب ..المسلسلُ الذي تكاملَ في مفرداتهِ كلُّها, فكان مسرحاً تنافسياً كبيراً, بين الممثلين والإدارة والعاملين خلفَ الكواليس , والموسيقين والشعراء والمصورين والمنتجين ..كلهم اجتمعوا ليتبارزوا,, ..و أما الاستئثار بتوصيف شخصية واحدة من الفنانين دون غيرها؛ فذالك لزحمةِ الحدث وحجمهِ الكبير, ولكن يبقى للإبداع أسبابُه كما نراها... فعواطفُ السلمان في كثير من أعمالها الفنية الاخيرة , استحوذتْ على أفئدةِ المشاهدين وتربعتْ في قلوبِهم وربما دونَ منافسٍ...ولا يتسعُ الحديثُ ؛لتناولَ عواطف السلمان في أعمالِها الاخيرة جميعا ,, ولكنْ يبقى دورُها في  ( ضياع في حفر الباطن ) يستحقُ الثناءَ والتقدير والتأمل ...كثيرٌ من الذينَ تابعوا عواطف السلمان في هذا المسلسل ,ازدادتْ جروحهم عمقاً؛ حينَ عاشوا اللحظات الحقيقية لأيام الانتفاضة مع عواطف السلمان ,واجهشوا بالبكاء مراراً وتكراراً , وبقيتْ  عواطف السلمان متألقةً حتى أخرَ ثانيةٍ من ظهورِها في المسلسل , وفي الحقيقة , أنَّ التفسير الصحيح لتألق عواطف السلمان, يجعلك امام  عدة خيارات؛ لفهمِ ذالك السمو والإبداع ...ومنها :-
أولاً:- ربُّما تكون عواطف السلمان أُماً حقيقة لإحد أبطال الانتفاضة ,أو أنها عايشتِ الاحداث عن مقربة حقيقية ؛فاستوعبتِ المشهد بكامله..                                                                         
ثانياً :- أنْ تكون السلمان  قدْ ادركتْ تمامَ الادراكِ تاريخَ  البصرة الحديث , وفي لاوعيها وشعورِها الدفين رغبةً كاملةً في الثأرِ,  لما حدثَ يرافقُهُ حبٌ كبيرٌ للأرض والهواء والماء والسماء اللتي انجبتِ السلمان ..
ثالثا :- أْنْ تكون السلمان قدْ استلهمتْ تلك الحقبة الزمنية و بكلِّ تفاصيلِها .. كأي عراقي عايشَ النظام  الفاشستي, وهاهي تعبر عرافها بأكمله .                                                           
رابعاً :- أنْ تكون الفنانة القديرة عواطف السلمان تمرُّ بمرحلةِ النضج الفني الكامل ,,وهي في قمة هرم العطاء الفني , فقد كانتْ قادرة وفي أي مشهدٍ على سلبِ  لُب المشاهد وأسره , بكلِّ يسرٍ وسهولةٍ, وربما لهذا الاداء التصاعدي الرائع علاقة بفسحة الحرية, التي نالَها الفنانُ العراقي بعد 2003م..
وكانت  السلمان واحدة ممن سيطرت سيطرة كاملة على المشهد الدرامي في المسلسل, وعلى أية حال , لقد اذهلتِ الجميع , وفاقتْ كلَّ التصورات و كانتْ بحق واحدة من عمالقةِ الفن العراقي . وقد جعلتنا نستغني بالسؤال عن دورِ الاخرين مِنْ حملة الشهادات الجامعية والإعلاميين في توصيفِ الحدثِ وتاريخهِ , ولكنْ سُجِلَ على المنتج ضيق المساحة المكانية والزمانية الّتي تحدثَ عنها الروائي عبد الكريم العبيدي , وهذا أمرٌ طبيعي ,,ويبقى الحديث عن هذا العمل الدرامي الكبير حديثاً غيرَ متكاملٍ؛ لعدم القدرة على الإلمامِ بجوانبِ الموضوع كلّهِ في هذه السّطور, ومن الجديرِ بالذكرِ, يُعدُّ هذا العمل قفزة نوعية لمنتجهِ ولشاشة الفضائية العراقية, تجعلُها في مصافِ الاعلامِ الملتزم والحقيقي ,الذي يمتلكُ القدرةَ على رسمِ الحدثِ وتثبيتهِ في ذاكرةِ المتلقي.والّذي ثبتَّ خطوتَهُ الاولى والمهمة جداً جداً؛بإعادة الحقوق التاريخية لأجيالٍ بكاملِها ,من التي عايشت النظام التعسفي الهالك.                       
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

للنّاصرية…رعد السّيفي للنّاصريةِ..للنّاصريةْو مسيلُ نهرِ الدّمِ. يُسْقِطُ منْ سماءِ الجسرِ              أقماراً نديّةْ خُذْ يا صديقي دمعتي                  للنّاصريةْلمدينتي الأُخرى،لأمواجِ الفراتِ تَبلُّ أضلاعي بحزنِ الماءِ في..             فجرِ الدّماءْخُذني إلى لُغةِ المواقدِ، للكوانينِ العتيقةِ،للمسلّاتِ التّي تتأبطُ الأيامَ أسئلةً،و أسراراً، لِتَصعدَ حيثُ مرقى النّورِ          في الأرضِ النّبيةْ لقداسةِ الجسدِ المسَجّى فوقَ لؤلؤةِ الرّمادِ،لذلك الحزنِ المعَشِّشِ في زوايا الرّوحِيتركُ فوقَ غُصنِ نهاري المكسورِ وردَ الدّمعِ     في النّارِ النّديةْ!لتمائمِ الأرضِ التّي ظَلَّتْ مُعَلَّقةً بجيدِ الموجِ تحرسُ وحشةَ الماءِ الغريبِ مِنَ الحجرْ!لمضيفها الضوئيتسبقُهُ الشّوارعُ، و البساتينُ الفسيحةُ،و البيوتْ لعبيرِ قهوتِها المهَيَّلِ،و هو يُحييْ نكهةَ الحزنِ الحميمِ هناكَ؛حيثُ تمرُّ حنجرةُ الغناءِ بما تيسَّر من رمادِ الروحِ في ذكرى الخفوتْلروافدِ النّهرِ التّي ما انّفَكَ فيها الليلُ يسرجُ للمدينةِ…ما تبقّى من قناديلِ الكواكبِ،و الصّواري السّاهراتِعلى ظلاماتِ الجسورْ!خُذْ يا صديقي دمعتي..لا تهجعُ الكلماتُ في محرابِ ذاكَ الّليلِ..ساهرةٌ معي؛في دمعةِ الزّيتونِ؛يذرفُ أوّلَ الأحلامِ في شغفِ الّلذائذِ نحو علياءِ القبورْ! خُذْني فليسَ هناكَ من معنى لهذا الصوتِ في طُرقِ المدينةِ حينَ يسألُني نشيجُ النّهرِ عن قمرٍ تكسَّرَ في الجذورْ قدْ كانَ يحنو؛كي يعيذَ مواكبَ الأمواجِ      بالأنسامِ من قَنّاصةِ الرّيحِ الغريبةِوهي تُوغِلُ في النّحور!!تلُّ الجنائزِ يطرقُ الأب وابَ يُشْعِلُ في الرؤى غيمَ العذابِ المرَّفي عبثِ الظّلامْ تتفتّحُ الطُرقاتُ عن حشدٍ من الأرواحِ؛تبحثُ في بياضِ الفجرِعن حُلُمٍ ذبيحْ!قَدْ كانَ ينسجُ من حكايا الّليلِ لأغنيةً…لطيرِ الماءِفي النّهرِ الضريحْ!ركضت إلى اللا أينَتسحبُ رغبةَ الأنفاسِفي جثثٍ تُلوّحُ للنّهايةِ،             و هي تنأى؛إِذْ تَمرُّ هناكَ فوقَ أصابعِ الفجرِ الجريحْ!كانَ انتظارُ الموتِ يُشْبهُ شهقةً..ما كادَ يُطْلقُهامسيلُ الدّمِ كي يصحو؛ليغرقَ في سُباتِ الوقتِ حتّى يستريحْ!تلكَ المدينةُ..لم تزلْ تتوشّحُ الحزنَ النّبيْ من أوّلِ الأسماءِتغتسلُ الحروفُ بمائِهاحتّى هطولِ الحُلْمِ في ليلِ البنفسجِ، و هو يغرقُ في الدّماءْ!تلك المدينةُ..أجَّجَتْ في الّليلِ حزنَ الرّيحِ في الوطنِ الجريحْ معراجُها للشّمسِ يكبُرُ في دمي صرخاتُ قلبٍكُلَّما وَطَّنْتُها؛تَرْتَدُّ ثانيةً تصيحْ:قَدْ عادَ شيطانُ الرّمادِ بشهوةٍ وحشيّةٍ؛لتفوحَ عندَ الفجرِ رائحةُ الذّئابِ                         فصيحةً!!من صبحنا المذبوحِ، فوقَ الجسرِ،  في الأرضِ النّبيةْللنّاصريةِ...للنّاصريةْهذا غناءُ الرّوحِ..مَنْ يبكي هُناكَ كأنّما يبكي..مفاتيحَ الجِنانِ، و حكمةَ المدنِ القَصيّةْقَدْ راحَ يبكي الماءَ،و النّهرَ المسيّج بالشّموعْ يبكي اغترابَ الرّيحِ في الأبراجِ،فَيْضَ الكُحْلِ، مرتعشاً،    على سوطِ الدّموعْ قَدْ راحَ يبكيني بأفئدةٍ تُفَتِّشُ في مسيلِ الدّمِ عن سرٍّ تبرعمَمن شفاهِ الجرحِ لمْ يَمسَسْهُ خوفٌ خُطَّ في سِفْر الخشوعْ قَدْ ظَلَّ يصدحُ وحدُهُ للنّاصريةِ…لمْ يزلْ عطشُ الشّفاهِ،ولم تزلْكفّايَ آنيةً من الفخّارِتنضحُ،في اشتهاءِ الشّمسِ،                 جَنّةَ مائِها؛لتُبلَّ فوقَ الجسرِ        ذاكرةَ السّطوعْ٢٠١٩/١١/٣٠هيوستن