تعدُّ الانتفاضة الشعبانية المباركة من أقوى وأهم الحركات الثورية المسلحة ,الّتي شهدها تاريخ العراق الحديث ,التاريخ الحديث الموسوم بالحركات الانقلابية العسكرية , كُتب له أن يشهدَ استقراراً داخلياً كبيراً؛حين قررَ الدكتاتور وضعَ العراقيين كافة في سجنٍ واحدٍ ,ولكن باختلاف الجلاد وعنوانه وأقسام السجن الداخلية ...فقد قُسم الى درجات منها السياحي ومنه الجهنمي....وما فرَّ منه إلا ناج أو مبتعث وما بقي فيه إلا مضطهد أو منتسب... ومرت أوراق الدكتاتور وأحلامه المريضة على العراقيين ,وسنينهم حالكة السواد ,وهم يمضون من دهليزٍ الى دهليزٍ أطول من سابقه..وما أن وطأت قدما العسكر أرض الكويت حتى تشكلَ منعطفاً تاريخياً كبيراً جداً جداً في حياةِ العراقيين كانَ في بعضِ صفحاتهِ مكملاً لحياةِ البؤسِ الاجتماعي للفرد العراقي من أيام الحرب العراقية-الايرانية ,وما قبلها من سنين البيانات الكاذبة والمؤامرات الممسرحة الهزيلة.... وبين تلك الايام وسابقاتها , جرت شلالات الدم العراقية, وبقين النسوة ثكلى ..وتجسد التاريخ وكتب في المقابر الجماعية وعلى الأبواب الذهبية في قصورهِ, الّتي أريد لها ان تكونَ كأسماء الله الحسنى في العدد, ومع كل ماذكر وما لم يذكر بقي في الارض رهطٌ من المفسدين يسمونه باسم الشهيد ؟؟؟ وكان 17 يناير من 1991 يوماً استثنائيا ومميزاً على صفحات الاعلام وكتب التاريخ ؛حيث اجتمعت أكثر جيوش العالم تقدما وقوة ,وأخذت تبطش بكل ما يعترضها على أرض الكويت أو العراق وكأنَّ السماء صبت غضبَها على كلِّ حي يتنفس فوق هذه الارض , وتقدمت بعض القوات وغاصت في أرض العراق حتى وصلت أرض ذي قار ...فكانت الانتفاضة الشعبانية المباركة :-وهي حركة ثورية مسلحة مرتبطة بقيادات مناطقية , هي أقرب الى المليشيات المسلحة منها الى حركة عسكرية منظمة قامت من رحم العراق لتصرخَ في وجه الطغيان .واكتسحت مدن ومحافظات جنوب العراق كلها وانضمت اليها بابل وكربلاء والنجف دون مدن بعض الوسط والغرب... ,وكان الثوار يحذوهم أملًا بالنجاح ؛ لأكثر من سبب, ومن أهمها :-
أولا- مساعدة القوى العسكرية لجيوش التحالف ولا سيما التي دخلت أرض العراق في نجاح الثورة.
ثانيا – ان الدكتاتور يمر بمرحلة الانهيار والسقوط السريع
ثالثا – ان تمد ايران الاسلامية الثورية كما يعتقد الناس في حينها , يد العون المسلح للمنتفضين ,كونها تحمي أكبر الفصائل العراقية المعارضة المسلحة انذاك .
وما أن تلقت بغداد الاذن من دول الخليج وقوات التحالف الدولية ,حتى اجهز الدكتاتور وجنده على المدن , وأزهقت الارواح واستبيحت القرى الامنة وهتك العرض ,وفاضت سومر من جديد بدماء ابنائها وأحرقت خيام الطف من جديد وذبح الف الف عبد الله الرضيع ... فيما بقيت مدن الضباط والأنواط متفرجة على الجنوب واستبيح الشمال باسم الانفال وكان حجم المأساة اكبر من حجم العقل . وكتب للجنوب ان يوصف بالمنتفض الشيعي , وجيرت الامور مذهبيا,وسالت الاودية بدمائهم الطاهرة الزكية وكانت النهاية المعروفة تاريخياً بهذا الوصف الموجز المؤلم......
وفي هذه الايام تمر علينا ذكرى اسابيع من التاريخ فقد فيهما العراق اكثر من 300 الف شهيد على يد الطاغية وأعوانه, وصمتت دول الجوار والعالم أجمعه وأنزوى الاعلام بوسائله كلها وتنحى جانبا , وسيق الشباب الى المقاصل العلنية تحت شهادة منظمات حقوق الانسان العالمية ومباركة الحكام العرب !؟ وبقيت ذكرى الانتفاضة وطرق احيائها حتى اللحظة , تبدو خجولة أمام هول الحدث وحجمه التاريخي الحقيقي , فقد اغفلَ الساسةُ هذه الذكرى وإن تناولها احدهُم اعلامياً او سياسياَ , تناولها بإيجاز مجيراً ذالك لشخصه أو حزبهِ ؛ كونه لاهياً او لاهثاً , بما نزلَ عليه من خيرات لم يكن يحلم بها من قبل ولا من بعد ,, ولا عتب ولا لوم ؛لأنه لاينفع مع الامر وصف أو دواء...أما الامر الثاني والّذي هو اشد على النفس . هو ذكرى الانتفاضة في المشهد الثقافي العراقي من 2003 وإلى يومنا هذا..وتعميم المشهد الثقافي العراقي وإدخاله في الموضوع مقصدا؛لأنه وثيقة تاريخية مهمة جدا جدا؛ نتصفح من خلالها التاريخ المكتوب دونَ دنانير السلطان وسيافه , وهذا ما ندرَ في كتابة التاريخ المزدهر بالتزوير والمدائح والفتوحات....وفي هذه الذكرى المجيدة,أصبحَ لزاماً علينا أن نوصلَ الجسور بين المشهد الثقافي والتاريخ ؛لإنَّ الفرصة المتاحة الآنَ للتعبير ,هي فرصة كبيرة بالقياس لما سبق؛ ولذا مطلوب منا:- عمل مسرحي وكتابة روايات ,ومجاميع قصصية ,وإنتاج مسلسلات تلفازيه... تؤرخ للواقعة ,ومهرجانات شعر ونثر وتضمين كتب التاريخ المنهجية في مدارس الجنوب لأحداث الانتفاضة , وإقامة النصب التذكارية ((في الشوارع والساحات العامة ))مخلدة الملحمة البطولية لأبناء سومر , ولابأس أن تلحقَ بها حدائق ترفيهية ويطلق عليها اسماء تخص أبطال الانتفاضة ومدنها ,وعلى مجالس المحافظات مفاتحة الفنانين في الموضوع وإقامة مسابقات النحت والرسم ومعارض ألفوتوغرافي ومحاولة إيصال الفكرة لمثقفي وأكاديمي دول العالم ومنظماته المهتمة بحقوق الانسان ,وذالك لترسيخ الموضوع في ذاكرة الاجيال..وبعد ذالك أين الاكاديمية العراقية والبحث الاكاديمي من الموضوع , وهنا نقف أمام كم من الجامعات الرسمية والأهلية المتناثرة في جنوب وشمال العراق وبعض مدن الوسط المعنية بجغرافية الانتفاضة الشعبانية المباركة ,ونشير الى أهمية اقسام دراسية بعينها من مثل :-أقسام التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والقانون والعلوم السياسية والمؤسسات الدينية ..أين البحث الاكاديمي من الانتفاضة ,ألا يصلح بحوثاً معاصره, بدلاً من الاجترار اليومي والتكرار المُمل لبطون التراث وعناوينه المنسوخة , بمسميات بحثيه كلها قوالب جامدة .... ألا تدرس جغرافية الحدث وتاريخه وأسبابه ونتائجه وشخوصه وأثاره الاجتماعية والنفسية ,ودور القانون والإعلام في فضح جلاديه ومحاسبتهم على كل صغيرة وكبيرة بما في ذالك اسماء الاشخاص والألوية والقوات العسكرية وقوامها ومواصفاتها المهاجمة للانتفاضة , وطبيعة المعارك اللتي حصدت أرواح الثائرين ,وأثار الهجرة بعد ذالك على العراقيين الثائرين وانقسام المجتمع ودوافعه الطائفية ودورها على وحدة العراق بعد الانتفاضة , ثم كيف تتابعت القرارات المجحفة بحق عراقيين الداخل ممن اُعدموا أو سجنوا , وكيف تعاملت دول الجوار وقادتها مع العراقيين اللاجئين الى تلك دول أبان الانتفاضة وبعدها وما هي المشاكل الّتي واجهتهم هناك وواجهت أهلهم في الداخل ,,اما يعتقد المرء ان تلك التساؤلات , هي مادة علمية جاهزة للبحث والدراسة على مستوى الدكتوراه والماجستير ,فهل من ناصر ينصر القضية بقلمه وبحثه , وهل من متصدي فنبارك له دعمه للانتفاضة ,وعلى الاساتذة أعداد عناوين بحثية متعلقة بالانتفاضة وتنوير طلابهم بها وإقناعهم بأهمية البحث في هذا الموضوع , نرجو الرحمة لشهدائنا الابرار ونأمل من أن يُحمل الموضوع على محمل الجد أن شاء الله تبارك وتعالى
جمال حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق